تحقيق خاص – الحدث كندا
من جديد، عاد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب ليفجّر جدلاً واسعاً بقراره نشر قوات فدرالية في مدينتي شيكاغو ونيويورك، تحت شعار مكافحة “الجريمة المتفشية”. غير أن هذا الإعلان لا يمكن عزله عن السياق السياسي والانتخابي الذي يسبق استحقاق 2026، حيث يسعى ترامب إلى تقديم نفسه كـ”الرجل القوي” القادر على إعادة الأمن إلى المدن الكبرى، في مقابل خصومه الديمقراطيين الذين يتّهمهم بـ”الفشل”.
تصعيد أمني في قلب العاصمة
واشنطن كانت أولى ساحات المواجهة. منذ عشرة أيام، تنتشر في شوارعها أكثر من 1900 جندي من الحرس الوطني، بعضهم أمام مدرعات قرب محطة القطارات المركزية و”ناشيونال مول”. وبحسب مسؤول في البنتاغون، فإن هؤلاء الجنود سيزوَّدون قريباً بالأسلحة بموجب أوامر وزير الدفاع بيت هيغسيث.
ترامب كان قد أعلن في 11 آب/أغسطس وضع الأمن في العاصمة تحت سلطة إدارته، اذ أنها “غارقة في العصابات العنيفة”. لكن عمدة واشنطن، الديمقراطية مورييل باوزر، فنّدت هذه الرواية مؤكدة أن معدلات الجريمة سجّلت “أدنى مستوياتها منذ ثلاثة عقود”. ومع ذلك، أصر ترامب على أن مهمته هي “جعل مدننا آمنة جداً جداً”، مقدّماً نفسه كحارس للأمن القومي الداخلي.
شيكاغو ونيويورك… رمزية سياسية بامتياز
اختيار ترامب لشيكاغو ونيويورك لم يكن عفوياً. فالأولى، كبرى مدن إيلينوي، طالما صوّرها الجمهوريون على أنها “عاصمة العنف الحضري”، فيما تشكّل نيويورك رمزاً سياسياً وثقافياً للديمقراطيين.
ترامب لم يتردّد في مهاجمة إدارة شيكاغو، واصفاً عمدة المدينة بـ”غير الكفؤ”، ومؤكداً أن سكانها “يستجدون تدخله”. وأضاف في نبرة استعراضية وهو يضع قبعة حمراء عليها شعار “ترامب كان على حق في كل شيء”:
“شيكاغو ستكون التالية، وبعدها سنساعد نيويورك.”
غير أن ردّ حاكم إيلينوي، الديمقراطي جي بي بريتزكر، جاء سريعاً وحاداً: “الناس لا يطالبون بسلطة استبدادية تسيطر على المدن الكبرى”. هنا تتضح معركة الخطاب: بين ترامب الذي يقدم الأمن كأولوية مطلقة، والديمقراطيين الذين يحذّرون من انزلاق البلاد نحو نموذج سلطوي.
أبعاد انتخابية متداخلة مع “مونديال 2026”
اللافت أن خطاب ترامب الأمني جاء في سياق مداخلة طويلة من المكتب البيضاوي كان يفترض أن تتركّز على ملف تنظيم كأس العالم لكرة القدم 2026 في أميركا الشمالية. لكن سرعان ما تحوّل الحدث الرياضي إلى منصة سياسية لعرض “رؤية ترامب الأمنية”، في تداخل واضح بين السياسة الداخلية والرهانات الدولية.
رسالة ترامب كانت مزدوجة: للعالم، أراد أن يظهر أن الولايات المتحدة ستبقى “بلداً آمناً” خلال استضافة المونديال. وللداخل، قدّم نفسه كزعيم قادر على إعادة “القانون والنظام”، وهو شعار طالما استخدمه في حملاته الانتخابية السابقة.
عسكرة المدن… والذاكرة التاريخية
المشهد ليس جديداً كلياً في التاريخ الأميركي. ففي 1965، شهدت البلاد آخر تدخل فدرالي مماثل ضد رغبة سلطة محلية. لكن ما يقوم به ترامب اليوم يعيد إحياء هذا الجدل حول صلاحيات الرئيس مقابل استقلالية الولايات.
من لوس أنجلس إلى واشنطن، مروراً بتهديدات تطال شيكاغو ونيويورك، يظهر ترامب أنه مستعد لتوظيف الجيش وقوات الأمن كأداة سياسية. لكن هذا الخيار ينطوي على مخاطر: عسكرة الفضاء المدني، وتوسيع صلاحيات السلطة التنفيذية على حساب الفيدرالية الأميركية، وتعزيز صورة “الرجل الواحد القوي”.
في نهاية المطاف، يبدو أن ترامب يستخدم ورقة الأمن كجزء أساسي من حملته نحو 2026، مخاطباً قاعدة انتخابية تخشى الهجرة والجريمة وتبحث عن “زعيم صارم”. غير أن خصومه يرون في ذلك انزلاقاً خطيراً نحو “سلطة استبدادية” قد تهدد الأسس الديمقراطية الأميركية.
وبين هذين الخطابين، تظل المدن الأميركية – من واشنطن إلى نيويورك – مسرحاً مفتوحاً لمعركة سياسية–انتخابية بقدر ما هي أمنية.
