عن “العصر الكنسي” في كيبيك : احترامٌ متبادلٌ وصناعةُ مجتمع

Last Updated: أكتوبر 8, 2025Categories: أخبار لبنان, رئيس التحرير

 رؤوف نجم – الحدث كندا

ستدخل مقاطعة كيبيك مرحلة معركة دستورية بين CAQ وPQ وستستعمل كلمات قد يجدها المواطن المهاجر غير مفهومة فالكثيرون يتكلمون عن القيم الاخلاقية والحريات ومنهم لا يدري ما هو معناها التاريخي . ولذا ارتأت الحدث القاء الاضواء على بعض ما سيرد في المناقشات، ونكون بذلك ادينا مساهمة بسيطة في مرحلة قد تكون تاريخية.

مدخلٌ ضروري: ما الذي كان قبل 1960؟

تُطلَق تسمية “الثورة الهادئة” على التحولات العميقة التي انطلقت في كيبيك عقب انتخابات 1960: صعودُ الدولة الحديثة، تقليص دور الكنيسة في التعليم والصحة، وصوغُ وعيٍ قوميٍّ اقتصادي-اجتماعي جديد.

لفهم تلك النقلة، يجب أوّلًا قراءة المرحلة السابقة بوصفها زمنَ التعاون والتكامل بين الكنيسة والدولة، حيث كانت الرعيةُ إطارًا جامعًا للحياة اليومية والخدمات الأساسية. هذا السياق هو الذي أتاح لاحقًا الانتقالَ المنظّم إلى الدولة-الراعية الحديثة.

قيمُ “الانسان المواطن” قبل الثورة:

إيمانٌ مُعاشٌ ومجتمعٌ مترابط

بين الأربعينيات ونهاية الخمسينيات، تجسّدت قيَمُ الكندي-الفرنسي في كيبيك في كاثوليكيةٍ مُمارسة، تُنظِّمها الرعية وتُسنِدها مؤسساتٌ رهبانيةٌ تدير المدارس والمستشفيات ودور الرعاية. العائلةُ الكبيرة، الاقتصادُ والتقشّف، الاحترامُ للسلطات المحلية (الكاهن، المعلّم، الطبيب) والانضباطُ الاجتماعي كانت بوصلة الحياة، فيما ظلّ الريفُ والعيشُ البسيط و“سُرْمدَةُ” اللغة والثقافة الفرنسية أولى من حداثة المدن. هذا الترتيب الاجتماعي ــ على ما فيه من محافظة ــ وفّر تماسكًا قلّ نظيره في مجتمعاتٍ مماثلة زمنًا وموقعًا.

لماذا بدت “الهيمنة الكنسية” مفيدةً عمليًا؟

قبل قيام شبكةٍ عموميةٍ حديثة، أمّنت الأبرشيات والرهبانيات تعليمًا وتمريضًا واستشفاءً واسع الانتشار بكلفةٍ عامة محدودة؛ كان ذلك “دولةَ خدماتٍ بالوكالة” وفّرت بنيةً تحتيةً بشريةً وأخلاقيةً صلبةً في كل ناحية. وعندما جاءت الستينيات، ورثت الدولة أجهزةً عاملةً ومرتبطةً بالناس، فوحّدت المناهج وأنشأت وزارة التربية ونقلت إدارة المستشفيات إلى القطاع العمومي. أي إنّ ثمار الحقبة الأولى كانت أساسًا لتحديث الحقبة التالية.

رموز السياسة:

صليب 1936 علامةُ تقاطعٍ بين الأخلاق والسلطة

منذ 1936، عُلّق صليبٌ فوق كرسيّ رئيس الجمعية التشريعية إشارةً معلنةً إلى مرجعيةٍ أخلاقيةٍ مسيحيةٍ في الفضاء العام؛ ظلّ الرمز حاضرًا عقودًا إلى أن أُزيل نهائيًّا عام 2019 مع ترسيخ مبدأ العلمانية في المؤسسات. بعيدًا عن صخب الجدل الراهن، كان الصليب إشارةَ هويةٍ عريضة في زمنه، تُطمئن جمهورًا واسعًا إلى أنّ السياسة لا تعادي قيمَه.

“السلام الاجتماعي”: حجّة المدافعين عن الرقابة الأخلاقية

وُضِعت رقابةٌ على العروض والسينما منذ العقد الثاني من القرن العشرين وتوسّعت مع السينما الناطقة. بمنظار زمانها، كانت الغايةُ حمايةَ “أخلاقٍ مشتركة” وتجنّبَ صداماتٍ ثقافيةٍ في مجتمعٍ صغيرٍ هشّ. قد نختلف اليوم مع الرقابة، لكنّ المدافعين عنها رأوا فيها أداةَ وقايةٍ اجتماعية قبل أن تكون قيدًا على الإبداع.

عندما تدخّلت الكنيسة لصالح العمّال: إضراب الإسبست (1949)

شكّل إضراب مناجم الإسبست في 1949 نقطةَ تحوّلٍ أخلاقي-اجتماعي؛ إذ ساند جزءٌ وازنٌ من الكنيسة العمّال في مواجهة شركةٍ قوية ودولةٍ متشدّدة، فظهر أنّ “الهيمنة الكنسية” ليست كتلةً صمّاء بل فضاءٌ داخله مواقفُ نقديةٌ تُمهِّد للتغيير. وقد اعتُبر الإضراب منطلقًا بعيد الأثر لوعيٍ اجتماعي مهّد لاحقًا لمطالب التحديث. The Canadian 

قانون “القفل” 1937: حدودُ الدفاع عن “النظام المسيحي”

سنّت حكومة دوبليسيس “قانون القفل” لمكافحة الشيوعية، ومنحَ القانونُ المدّعي العام سلطةَ إغلاق أيّ مقرٍّ يُشتبه في استخدامه للدعاية “البلشفية”. بمرور الوقت استُخدم الإطار لقمع تياراتٍ ونشطاء، ما أثار اعتراضاتٍ قانونيةً وحقوقية. تكشف القضية حدودَ نموذج الضبط الأخلاقي عندما يتجاوز ضمانَ الحريات، وتُظهر كيف دفع تضاربُ القيم إلى تطوير توازنات سيادة القانون لاحقًا.

“رونكاريلّي ضد دوبليسيس” (1959): سيادةُ القانون تصحّح المسار

مثّلت قضيّةُ رونكاريلّي علامةً فارقة: أدانت المحكمةُ العليا رئيسَ الوزراء موريس دوبليسيس لمسؤوليته عن سحب رخصة خمور من صاحب مطعمٍ كندي-إيطالي لأنه قدّم كفالاتٍ لشهّود يهوه. القرارُ جسّد مبدأ أنّ السلطة ليست فوق القانون، وأنّ دوافع الانتقام السياسي-الديني لا تُشرعن إساءة استعمال المنصب. كانت تلك خطوةً تأسيسيةً في “الميثاق الضمني للحقوق” قبل ميثاق الحقوق والحريات.

ماذا ربحت كيبيك من “عصر التماهي الكنسي-المدني”؟

  1. تماسكٌ اجتماعيٌّ وثقافيّ مكّن جماعةً فرنكوفونيةً صغيرةً من صون لغتها وثقافتها في محيطٍ أنجلوساكسوني واسع.

  2. شبكةُ خدماتٍ واسعة قبل توافر الدولة الحديثة، ما خفّف الفقر المعرفي والصحي ومهّد لمعابر التمدرس والتأهّل المهني.

  3. استمراريةٌ معيارية منحت الحياة العامة قابليةَ توقّعٍ وثقةً متبادلة.

  4. قابليةُ انتقالٍ مؤسسي: حين قرّرت كيبيك التحديث، وُجدت مؤسساتٌ بشريةٌ وخبراتٌ قابلةٌ لإعادة التموضع داخل الدولة. هذه نقاطُ قوّةٍ لا تُفهَم إلا بوضعها في سياقها التاريخي والاجتماعي. University of Toronto Individual+1

من “العصر الكنسي” إلى الدولة الحديثة: قطيعةٌ أم استمرارية؟

لم تكن الستينيات نسفًا للماضي بقدر ما كانت ترتيبًا جديدًا للإرث: انتقل مركز الثقل من الكنيسة إلى الوزارات، ومن الرعية إلى الشبكات العمومية، مع إبقاء الهدف ذاته: تعليمٌ أعدل، صحةٌ أوسع، واقتصادٌ أنشط. بهذا المعنى، خدم احترامُ السياسيين للمرجعية الأخلاقية في الأربعينيات والخمسينيات وظيفةَ بناء رأس مال اجتماعي استثمرته الدولة لاحقًا لتوحيد المناهج وإقامة جهازٍ عمومي فاعل. Encyclopedia Britannica

الخلاصة التحريرية

إن تسمية تلك الحقبة “عصرًا ذهبيًا” تُغفل تعقيداتها. الأدقّ وصفُها بـعصر التماسك الرعوي: احترامٌ متبادلٌ بين رجل الدولة ورجل الدين، تعاونٌ مؤسسي أنتج خدماتٍ وتعليمًا وتمريضًا ممتدًا، ورأسمالٌ اجتماعي مكّن كيبيك من قفزتها اللاحقة. وفي الوقت نفسه، لا بدّ من التذكير بالمنحى المحافظ: رقابةٌ أخلاقيةٌ وقوانينُ قمعيةٌ مثل “القفل” (1937)، ورمزياتٌ دينيةٌ في قلب السلطة (صليب 1936، أُزيل 2019)، ونزعاتُ زبائنيةٍ سياسيةٍ في بعض البيئات. تلك الظلال لا تُلغي الإسهامات، لكنها تضعها في إطارها الصحيح: مرحلةٌ صنعت مجتمعًا قادرًا على تحديث نفسه من داخل تراثه لا على أنقاضه. Wikipedia+1

__________________________________________________________________________________

مصادر موجزة للاطلاع

ملاحظة تحريرية: التواريخ والوقائع المدرجة هنا (1936، 1937، 1949، 1959، بعد 1960، 2019) جرى توثيقها بمراجع مستقلة وتحظى بإجماعٍ أكاديمي وصحافيٍّ واسع. إذا رغبت، أزوّدك بنسخة Word مزوّدة بهوامشٍ وهوامش سفلية مفصّلة.

الأخبار عبر البريد الإلكتروني

اشترك الآن لتصلك الأخبار إلى بريدك الإلكتروني