دروس حضارية من مونتريال الى نيويورك
الحدث كندا خاص
رؤوف نجم
تفتح النتائج المتزامنة في مونتريال ونيويورك، مع فوز سورايا مارتينيز فيرّادا برئاسة بلدية العاصمة الاقتصادية للكيبيك، وانتخاب زهران ممداني أول مسلم وعربي-جنوب آسيوي لبلدية أكبر مدينة أميركية، نافذة نادرة لفهم التحوّل داخل المدن الكبرى في أميركا الشمالية: مدن متنوّعة، مثقلة بأزمات السكن والنقل وكلفة العيش، لكنها تختار وجوهاً آتية من الهجرة، وتتبنّى خطاباً حضرياً أقرب إلى اليسار الاجتماعي منه إلى التقشف الإداري. هذا ما التقطته التغطيات الكندية اذا اردنا وضع الخبرين في سياق واحد: موجة تجديد حضري أكثر منها صدفة انتخابية.
أول تشابه هو رمزية السيرة الشخصية. مارتينيز فيرّادا، القادمة من تشيلي والتي صعدت عبر البلديات ثم البرلمان الفيدرالي قبل أن تعود إلى مونتريال، قُدِّمت في الإعلام الكندي بوصفها “قصة اندماج مكتملة” تنتهي في Hôtel de Ville بعد ثماني سنوات من حكم بنفس الأسلوب تقريباً. في المقابل، تلقّت الصحافة الكندية والعالمية فوز ممداني كـ“حدث تاريخي” لأنه أول مسلم وأول جنوب آسيوي وأصغر من يصل إلى بلدية نيويورك منذ أكثر من قرن، ولأنه قادم من عائلة مهاجرة مثقفة لكن حملته كانت شعبية وقليلة الكلفة نسبياً. في الحالتين، المدينة تقول إن هوية المرشح لم تعد عائقاً، بل أحياناً إضافة انتخابية.
التشابه الثاني هو رغبة الناخبين في قلب الصفحة. الناخبون في مونتريال صوّتوا “للتغيير” بعد نحو ثماني سنوات من إدارة واحدة، فاختاروا زعيمة “أنسامبل مونتريال” التي وعدت بإدارة أكثر فعالية وعودة إلى أولويات السكان اليومية. والناخبون في نيويورك فعلوا الأمر نفسه تقريباً لكن بجرعة أيديولوجية أعلى: أسقطوا محاولة عودة أندرو كومو، وتجاوزوا الجمهوري كيرتس سليوا، واصطفّوا خلف مرشّح ديموقراطي اشتراكي ركّز على كلفة العيش والنقل المجاني وتجميد الإيجارات، مستفيداً من اتساع القاعدة التقدمية في المدينة. الرسالة في المدينتين واحدة: العاصمة الحضرية تريد وجهاً جديداً وخطاباً أقرب إلى الشارع.
على مستوى أجندة الحكم تبدو أوجه التشابه أوضح. مارتينيز فيرّادا دخلت الحملة بعنوان “عودة مونتريال إلى أهلها” عبر ست وِرَش كبرى: السكن، التنقل الشامل، الأمن، النظافة، مكافحة التشرّد، وإدارة أكثر صرامة للبلدية. هذه العناوين نفسها تقريباً شكّلت عظام برنامج ممداني: السكن الميسور مع تجميد الإيجار، نقل عام أرخص أو مجاني، حضانة عامّة، وتمويل ذلك من ضرائب أعلى على الميسورين. كلا البرنامجين يقول إن البلدية لن تكتفي بدور تنظيمي بل ستتدخّل بشكل مباشر لحماية القدرة على العيش داخل المدينة. وهذا بالضبط ما تتابعه الصحافة الكندية منذ أشهر وهي ترصد ارتفاع الإيجارات والتوتر في سوق العمل الحضري.
ثم هناك بعدٌ سياسي أعمق: ترسّخ المدينة التقدمية. فمن المعروف أن مونتريال مدينة تميل إلى اليسار، وأن نيويورك تصوّت ديموقراطياً على مستوى الرئاسة والكونغرس. الجديد هنا أن الناخبين لم ينزلقوا إلى حلول أمنية محافظة أو إلى خطاب ضد الهجرة رغم الضغوط الاقتصادية، بل ذهبوا إلى مزيد من التقدّمية، لكن بشخصيات تقدّم نفسها على أنها عملية وقادرة على التفاوض مع مستويات أخرى من الحكم. هذا ما أظهرته تصريحات مارتينيز فيرّادا بعد الفوز، وهذا ما ألمح إليه ممداني حين ربط مشروعه بقدرة المدينة على جباية ضرائب أعلى والتعامل مع إدارة فيدرالية ديموقراطية.
ومن زاوية الاتصال السياسي، يعتمد الاثنان على تحالف مديني متعدّد: نُخب ثقافية واقتصادية تريد مدينة أكثر تنافسية، جاليات مهاجرة تبحث عن تمثيل، وطبقات وسطى ومتدنية الدخل تريد حلّاً عملياً لأزمة السكن. الفرق أن ممداني احتاج أيضاً إلى شدّ العصب التقدّمي الأميركي واستغلال دعم شخصيات مثل برني ساندرز وألكسندريا أوكاسيو-كورتيز، فيما استفادت مارتينيز فيرّادا من رصيدها الفيدرالي ومن تعب الناخبين من الإدارة السابقة. لكن النتيجة في الحالتين واحدة: من يفوز هو من ينجح في التحدث بلغات ناخبين مختلفين داخل المدينة نفسها.
الصحافة الكندية ترى أن ما حدث ليس مجرد تزامن جغرافي بين مونتريال ونيويورك، بل علامة على لحظة حضرية تقول إن المدن الكبرى –حين تضيق بالأسعار وتتعقّد بنيتها الديمغرافية، تميل إلى اختيار قيادات تشبهها: مهاجرة، شابة نسبياً، متصالحة مع التعدد، ومستعدة لاستعمال أدوات بلدية قوية لتخفيف كلفة العيش. وهذه قصة قريبة جداً من المزاج الكندي، لذلك وجدت لها صدى سريعاً في غرف الأخبار في مونتريال وتورونتو على حدّ سواء.
الأخبار بالفيديو

الأخبار عبر البريد الإلكتروني
اشترك الآن لتصلك الأخبار إلى بريدك الإلكتروني

