الحدث كندا – خاص
رؤوف نجم

منذ 7 تشرين الأوّل/أكتوبر 2023، عاشت غزّة واحدةً من أكثر الحروب فتكًا بالمدنيين والبنية التحتية في العصر الحديث. الأرقام وحدها كفيلة بتبديد الضجيج الخطابي: عشرات الآلاف من القتلى، مئات الآلاف من الجرحى، نزوحٌ كاد يعمّ السكّان، ومجاعة موثّقة في أجزاء من القطاع. ومع ذلك، يعلو في المشهد خطابٌ يُحيل الهزائم إلى “انتصارات” ويغمر المأساة بأهازيج سياسية. هذا المقال يضع الخسائر الموثَّقة في مواجهة هذا الخطاب، ويطرح أسئلة الضرورة حول الحقيقة، والمحاسبة، وحق الناس في حياة كريمة.

تدلّ الوقائع المتراكمة على خسائر بشرية غير مسبوقة: قُتل نحو 66–67 ألفًا من الفلسطينيين، وأصيب أكثر من 168 ألفًا بإصاباتٍ تتراوح بين الخطيرة والدائمة، ونزح داخليًا قرابة 1.9 مليون شخص، أي ما يقارب 90% من السكان، كثيرون منهم نزحوا مرّاتٍ عدّة تحت القصف وانهيار الخدمات. وتؤكّد تقارير أممية متطابقة أنّ غزة المدينة شهدت في صيف 2025 حالة مجاعة، مع مئات الآلاف في مرحلة الجوع الكارثي وعشرات آلاف الأطفال دون الخامسة داخل دوائر سوء التغذية الحاد. وفي قلب هذه الجائحة الإنسانية قُتل أكثر من 1,700 من العاملين الصحيين، فيما سُجِّل مقتل أكثر من 230 صحفيًا وإعلاميًا منذ بدء الحرب، ما عمّق فجوة الاستجابة الطبية والإعلامية وقطع شرايين المعرفة والمساءلة.

وعلى الضفة المادية، تبدو المدينة على ركامها: صور الأقمار الصناعية وتقارير أممية تشير إلى تضرّر نحو 70–80% من مباني غزة بدرجاتٍ مختلفة، بينها أكثر من 100 ألف مبنى مدمَّر بالكامل. وقد طاول الدمار المنهجي المستشفيات والمراكز الصحية والمدارس، لتعمل بقدراتٍ شديدة المحدودية تحت ضغط نقص الوقود والمستلزمات وتهديدات الأمن، فتتراجع قدرة المجتمع على الاستشفاء والتعلّم ويُدفع إلى حافة البقاء. تقديرات البنك الدولي وشركائه تُقدِّر احتياجات التعافي وإعادة الإعمار بنحو 53 مليار دولار على عشر سنوات، مع نحو 20 مليارًا للسنوات الثلاث الأولى، وهو رقم لا يصف فواتير إسمنت وحديد فحسب، بل يلمّح إلى ثمنٍ اجتماعي طويل الأمد لانسداد الأفق وتفكك دورة الحياة.

وسط هذا الثِّقل، يعلو خطاب “الانتصارات الإلهية”. من يرى أصابع النصر مرتفعة ويسمع التكبيرات في غزة يعتقد أن الحمساويين حرروا القدس وأن رئيس الوزراء الإسرائيلي استسلم ورفع الراية البيضاء. أليست حماس هي التي وافقت على الاستسلام وعلى ورقة الأميركيين حلفاء نتنياهو، تمامًا كما فعل حزب الله في لبنان؟ لماذا يصر هؤلاء دومًا على الكذب على شعوبهم وتصنّع الانتصارات وإيهام العالم بأنهم أفضل وأنقى وأذكى وأقوى وأشرف وأحسن شعوب الأرض؟ لماذا هذا التكابر الكاذب الذي يمنع رؤية الواقع وبالتالي يمنع الحقيقة التي وحدها تساهم بالتطوّر؟ هذا التساؤل لا يصف لحظةً خطابية عابرة، بل يلخّص أزمةً أعمق من معركةٍ عسكرية: أزمة سياسة الحشد التي تُقايض الواقع بالشعارات. حين يعلو التكبير فوق صرخات الأمهات وتُرفع أصابع النصر على أنقاض البيوت، تُختَطف لغة الأخلاق لمصلحة هندسةٍ دعائية تقلب المعنى: تُصوَّر النجاة الفردية كفتحٍ، وتُختزل تراجيديا جماعية في “صمودٍ أسطوري”.

بهذه المقايضة تُستبدَل الوقائع بالسرديات. يبدأ الأمر بإنكار الكلفة البشرية، إذ يُسقِط الخطاب الدعائي أسماء الضحايا لصالح مفرداتٍ مجرّدة من نوع “نصر” و“صمود” و“توازن ردع”، فيغدو الدم تفصيلاً. ثم تأتي إعادة تدوير الهزيمة في قالب “تكتيك” سياسي أو عسكري، فتتآكل المحاسبة وتتلاشى الشفافية وتضيع الحقيقة بين طبقات التأويل. وكي يكتمل المشهد، تُشيطَن الأسئلة: كل من يسأل عن الجدوى أو يعترض على كلفة القرار يُتَّهَم بالتخاذل أو “الخيانة”، فتُغلق نوافذ النقد التي تحمي المجتمعات من تكرار المأساة وتسمح لها بأن تتعلّم من الألم بدل أن تعيش فيه إلى ما لا نهاية.

لا تُقاس شرعية أي حركة، مهما ارتفعت شعاراتها، إلا بميزانين لا ثالث لهما: حماية المدنيين وتقليل كلفتهم من جهة، والقدرة السياسية والاقتصادية على صون الحياة اليومية بعد الحرب من جهة أخرى. فإذا كان الناتج مدنًا مهدّمة وأجيالًا مفقرة ونظامَ خدماتٍ منهارًا، فالمراجعة الجذرية واجبة من لحظة اتخاذ القرار حتى إدارة الحرب والسلم، ومن تمثيل الناس إلى صون كرامتهم وحقوقهم الأساسية. الحقيقة، لا العواطف، هي الشرط الأول للتقدّم: الاعتراف بالخسائر كما هي، والتحقيق في الانتهاكات أينما كانت، وتعويض المتضررين، ووضع استراتيجية انتقال تعالج الجوع والصحة والتعليم والسكن بدل الدوران في فلك الشعارات. والانتصار الحقيقي ليس في تصدير الأهازيج بل في إدخال الأوكسيجين إلى المستشفيات، وفتح المدارس، وترميم البيوت، وإعادة بناء العقد الاجتماعي على قاعدة المصارحة والعدالة.

ومن دون محاسبةٍ شفافة، يتحوّل “الانتصار” إلى امتيازٍ للقيادات لا حقٍّ للناس. ما يُطلب اليوم ليس احتفالًا بشعارات، بل تقارير علنية عن كلفة القرار، ومسارات مساءلة مستقلة، وإشراكٌ حقيقي للمجتمع المدني في صياغة ما بعد الحرب؛ فالأثمان دفعها الناس بأجسادهم وبيوتهم ومدارس أولادهم، ومن حقّهم أن يعرفوا لماذا وكيف وإلى أين. إذا كان للانتصار اسمٌ واحد في غزّة اليوم فهو إنقاذ الحياة: وقفٌ دائريّ للعنف، فتحٌ مستدام للممرات الإنسانية، برنامج إعادة إعمارٍ ممَوَّلٍ ومراقَب، ومصالحةٌ مع الحقيقة تعيد للغة معناها وللناس حقهم في الغد. وما عدا ذلك ليس سوى قعقعة لفظية على ركامٍ حيّ.