الحدث كندا خاص
رؤوف نجم
صدر في مطلع تشرين الأول/أكتوبر فيلم وثائقي-درامي بعنوان «القلب المقدّس: ملكه لن ينتهي»، ففاجأ الأوساط الثقافية في فرنسا بوصوله السريع إلى نحو 300 ألف مشاهد، ليس فقط بسبب طابعه الروحي، بل لأنّه أعاد إلى الواجهة سؤال العلاقة بين الدين والمجتمع في بلد يفاخر بعلمانيته الصارمة. العمل الذي وقّعه ستيفن وسابرينا غانيل تحوّل في أيام قليلة إلى ظاهرة دينية-إعلامية، تداخل فيها الإقبال الشعبي مع الجدل السياسي.
الفيلم انطلق بعدد محدود من الصالات، ثم توسّع توزيعه إلى مئة قاعة في الأسبوع الأول، قبل أن يبلغ 150 قاعة لاحقاً، وهي وتيرة نادراً ما تُسجَّل لفيلم ذي مضمون مسيحي صريح. خلفية الإنتاج نفسها مسيحية، ما جعل بعض الجهات تعتبره في خانة “التبشير”، ولا سيّما بعد انتشار فيديو للمنتجة سابرينا غانيل تشكر فيه أوروبا على دعمها. هنا تدخّلت شركتا النقل العام في باريس (RATP) والسكك الحديد (SNCF) لسحب الإعلانات من المترو بدعوى أنّها لا تتوافق مع مبدأ حياد المرفق العام. لكن صانعي الفيلم رأوا في القرار نوعاً من الحرج الفرنسي المزمن من كل ما يلامس الإيمان.
الجدل لم يقف عند هذا الحد. في مرسيليا، ألغى رئيس البلدية الاشتراكي بونوا بايان عرضاً كان مقرّراً في قصر لوزين، واعتبر أنّ تنظيمه «تجاوز خطير وغير قانوني لحرية الإبداع»، قبل أن يُنقل العرض إلى ضاحية أوز بدعم من شخصيات يمينية ومحافظة. بالتوازي، تلقّت جمعية سينمائية رسالة من هيئة علمانية نددت بإدراج الفيلم في برمجة عامة وعدّته «عملاً دينياً ترويجياً».
مع ذلك، يؤكّد إعلاميون يتابعون الحركة السينمائية أنّ الضجّة خدمته أكثر مما أضرّت به. أيومريك بورباكس، مقدّم برنامج «روح السينما» على قناة CNews، يقول إنّ «هذا النوع من الجدل يذكّر بقضية سترايسند: حين تحاول منع شيء ما، تزيد من الرغبة في مشاهدته». ويضيف أنّه تلقّى رسائل من مشاهدين مؤمنين وغير مؤمنين على السواء قالوا إنّهم تأثّروا بالفيلم رغم اعتراضهم على بعض رسائله. في رأيه، «الاستقطاب يروّج للأفلام الوثائقية، لكنه لا يفسّر وحده ما جرى هنا. هذا الفيلم لمس وتراً روحياً موجوداً أصلاً».
هذا ما يذهب إليه أيضاً الصحافي الكاثوليكي جان-بيار دينيس، الذي يلخّص الظاهرة بالقول: «الجدالات دائماً مفيدة في الترويج، لكنها لا تشرح كل شيء. هذا الفيلم أيقظ شيئاً ما. إنه يقدّم رسالة إيجابية، ويستند إلى تقوى قديمة ما تزال حيّة». فالمضمون، وإن بدا تقليدياً في رموزه، يلتقي مع بحثٍ آخذٍ بالاتّساع في فرنسا عن معنى روحي خارج الأطر المؤسّسية.
اللاهوتي الأب ماتيو رافري، أحد الوجوه التي تظهر في الشريط، يقدّم قراءة قريبة من ذلك. يقول إنّ ما يطفو اليوم في فرنسا «ليس مجرّد عودة إلى الكاثوليكية الكلاسيكية، بل بحث عن شكلٍ جديد من الإيمان داخل مجتمع ماديّ ومتقلّب». لذلك، تبدو بعض ردود الفعل المتشدّدة – من قبيل سحب الإعلانات أو وصف الفيلم بأنّه تبشيري – وكأنها تصطدم بواقع اجتماعي تغيّر ولم تعد قراءاته للدين هي نفسها ما قبل عقدين.
وتكشف الأرقام التي رافقت العروض المصحوبة بنقاشات في الصالات أنّ الجمهور لم يأت فقط من البيئات الكنسية، بل أيضاً من فئات علمانية فضولية، أرادت أن ترى لماذا يُثار كل هذا النقاش حول عمل يُفترض أن يكون “دينياً”. بعض منظّمي هذه العروض لاحظوا أنّ الأجواء كانت أقرب إلى لقاءات روحية منها إلى عرض سينمائي تقليدي.
اهم ما كشفه فيلم «القلب الاقدس» أنّ العلمانية الفرنسية ليست كتلة واحدة صمّاء، وأنّ الحسّ الديني لم يختفِ تماماً من الفضاء العام، بل انسحب إلى الخلفية وعاد اليوم في صورة أكثر هدوءاً، وأحياناً أكثر حدّة. وفي كل مرة تهبّ عاصفة حول الصليب أو الحجاب أو فيلمٍ عن يسوع، يظهر أنّ المجتمع لا يزال يسأل السؤال نفسه: كيف نوفّق بين إيمانٍ خاصّ يريد أن يُعبّر عن نفسه، ودولةٍ تريد أن تبقى على مسافة واحدة من الجميع؟ هذا الفيلم لم يُجب عن السؤال، لكنه بلا شكّ أعاد طرحه بصوتٍ أعلى.
