الفاتيكان يبارك… والجبل يزرع: اتفاق درزي–ماروني يربط المصالحة بالأرض في الشوف وعاليه

اعداد حليم كرم
خاص الحدث-كندا
يشكّل التوقيع على وثيقة التعاون بين مشيخة عقل طائفة الموحّدين الدروز والرهبانية المارونية اللبنانية محطة وازنة في مسار المصالحة المارونية – الدرزية في الجبل، لأنه للمرة الأولى تُنقل تلك المصالحة من مستوى الرمزية التي أرساها البطريرك الراحل مار نصرالله بطرس صفير والزعيم وليد جنبلاط إلى مستوى الشراكة العملية على الأرض. هذا ما أكده للـ«الحدث كندا» السيّد نظام حاطوم، المكلّف من مشيخة العقل متابعة هذا الملف، في حديث أجراه معه الزميل حليم كرم، موضحًا أنّ “روح الاتفاق” هي: الحفاظ على المصالحة يكون بتمويلها بالإنماء، وبإيجاد مصالح مشتركة تبقي الموارنة والدروز معًا في الجبل لا مجرد متصالحين على الورق.
أهميّة الخطوة تنبع من ثلاثة عناصر مترابطة:
أنها تُثبّت ذاكرة الجبل المشتركة: فبدل أن تبقى مصالحة 2001 حدثًا يُستعاد في المناسبات، جاء هذا الاتفاق ليقول إن المصالحة مستمرة وتُحدَّث، وإنّ المرجعيات الروحية نفسها – شيخ العقل والدير الماروني – هي التي تتولى اليوم التوقيع على ترجمتها الإنمائية.
أنها تعطي المصالحة غطاءً وطنيًا ودوليًا: حضور السفير البابوي باولو بودجيا، وممثل البطريرك الماروني المطران بولس عبد الساتر، ونائب رئيس الحكومة طارق متري ممثلًا رئاستَي الجمهورية والحكومة، وممثلين عن دار الفتوى والمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، جعل الحدث خارج الحسابات الضيقة، فيما باركة الفاتيكان – كما كشف حاطوم للـ«الحدث كندا» – أعطته بعدًا كنسيًا أبعد من لبنان، كأنه يقول: هذه المصالحة نموذج يجب حمايته.
أنها تربط العيش المشترك بالحق في البقاء في الأرض: الاتفاق لم يأتِ لالتقاط صورة، بل بُني – بحسب ما أوضح حاطوم – على عمل استمر سنة ونصف بين الأب سمير غاوي عن الرهبانية وبين مشيخة العقل، وأفضى إلى إطلاق ثلاثة مشاريع تنموية في الشوف وعاليه، أوّلها على أراضٍ تابعة لدير مار يوحنا المعمدان في رشميا (1686)، أي على أرض مارونية عتيقة تُستعاد اليوم لخدمة إنماء مشترك. هذا يعني عمليًا خلق فرص عمل ووقف نزف الهجرة وتثبيت المسيحي إلى جانب الدرزي في القرى المختلطة.
الحضور السياسي عزّز هذا المعنى: نواب «اللقاء الديموقراطي» يتقدّمهم رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي تيمور جنبلاط، نائب رئيس حزب «القوات اللبنانية» النائب جورج عدوان، الوزير السابق زياد المكاري ممثلًا «المردة»، إلى جانب ممثلين عن الأجهزة الأمنية وشخصيات روحية. هذا التنوّع كان رسالة بحدّ ذاته: القوى السياسية المختلفة، حتى المتباعدة منها، تتفق على أن استقرار الجبل خط أحمر، وأن تنمية الأوقاف المشتركة هي وسيلة لحماية هذا الاستقرار.
نظام حاطوم شدّد في حديثه لـ«الحدث كندا» على أن “المصالحة كي تعيش يجب أن تُلمس”، وأن استثمار الأوقاف المارونية في مناطق التماس التاريخية بين الدروز والموارنة هو أفضل طريقة لخلق مصالح متبادلة، “فمن يشتغل معك ويأكل من تعب أرضك لن يعود بسهولة إلى لغة القطيعة”. ومن هنا كانت الاستفادة من الأراضي المهملة زراعيًا وصناعيًا، وتحويلها إلى مشاريع منتجة ترفع مستوى الحياة وتحمي الوجودين معًا.
في حديثه الى «الحدث كندا»، أوضح السيّد نظام حاطوم، المكلّف من مشيخة العقل متابعة هذا الملف، أنّ هذا الاتفاق لم يُنجز في يومٍ واحد، بل هو حصيلة عمل دام نحو سنة ونصف جرى خلاله تنسيق دقيق بين المشيخة والرهبانية عبر الأب سمير غاوي، رئيس دير الناعمة والسابق لدير مار مارون في مجد المعوش، إلى أن نضجت فكرة نقل المصالحة من مستوى الذاكرة إلى مستوى التنمية. وقال حاطوم إن «المصالحة التي صنعها البطريرك صفير ووليد جنبلاط كانت نقطة تحول، لكن حتى تبقى حيّة بعد ربع قرن يجب أن يشعر بها الناس في قراهم، في أراضيهم، في فرص العمل لأبنائهم».
جوهر الوثيقة، بحسب حاطوم، يقوم على استثمار مساحات واسعة من أراضي الأوقاف التي تملكها الرهبانية المارونية اللبنانية في منطقتَي الشوف وعاليه، وهي أراضٍ بقي جزء كبير منها غير مستثمر، ووضعها في خدمة مشاريع زراعية وصناعية وخدماتية مشتركة يستفيد منها أبناء القرى من الموارنة والدروز معًا. وقد تمّ الاتفاق مبدئيًا على إطلاق ثلاثة مشاريع تنموية في الجبل، أوّلها في منطقة كفرمتى على أراضٍ تابعة لدير مار يوحنا المعمدان في رشميا، وهو أقدم أديرة الرهبانية المارونية في لبنان إذ يعود تأسيسه إلى العام 1686، ما يضفي على المشروع بُعدًا رمزيًا إضافيًا: أرض مارونية تاريخية تُستعاد اليوم لتكون قاعدة لتنميةٍ مشتركة.
الهدف المباشر من هذه المشاريع، كما يشرح حاطوم للـ«الحدث كندا»، هو «إخراج الأراضي المهملة من الجمود، وإدخالها في دورة إنتاج تخلق فرص عمل، وترفع مستوى الحياة، وتمنع الهجرة الداخلية والخارجية، وتُشعر المسيحي والدرزي معًا بأنّ بقاءه في الجبل له مردود». ويضيف: «من يتشارك معك في مشروع وعيش ورغيف، يصعب أن يعود إلى لغة الانقسام القديمة. الإنماء هنا ليس نشاطًا اقتصاديًا فقط، بل أداة لحماية المصالحة».
العنصر اللافت في هذا المسار أنّه حظي ببركة الفاتيكان، إذ تلقّت مشيخة العقل والرهبانية المارونية رسالة دعم من الكرسي الرسولي تؤكد الوقوف إلى جانب هذا التعاون، في قراءة كنسية واضحة تعتبر أن نموذج المصالحة في الجبل يستحق أن يُحمى وأن يُستثمر، وأن دور الكنيسة لا يتوقف عند المصالحة الرمزية بل يشمل حماية الحضور المسيحي في مناطقه التاريخية عبر شراكات ذكية مع مكوناته الوطنية الأخرى، وفي مقدمتها المكوّن الدرزي.
الكلمات التي أُلقيت خلال الاحتفال شدّدت كلها على هذا المعنى: أهمية العلاقة التاريخية بين الدروز والموارنة في الجبل، أهمية المصالحة التي أنهت جراح الحرب، وضرورة الانتقال من «مصالحة الذاكرة» إلى «مصالحة العيش المشترك» التي تُترجم بمشاريع وبنى تحتية وفرص اقتصادية. كما أظهرت الكلمات أنّ القوى السياسية الحاضرة – من «اللقاء الديمقراطي» إلى «القوات اللبنانية» و«المردة» – أرادت أن تقول إنّ استقرار الجبل فوق الخلافات اليومية، وإنّ أي مشروع يثبّت الناس في أرضهم يستحق الغطاء.
بهذا المعنى، يمكن القول إنّ الوثيقة لم تعد مجرّد اتفاق بين مرجعيتين دينيتين، بل خطوة متقدمة في تحويل الجبل إلى مساحة مصالح مشتركة، يكون فيها الدير شريكًا للعُرف العاقل، والمطران شريكًا لشيخ العقل، والأوقاف المارونية شريكًا للقرى الدرزية، فتتكرّس حتمية العيش معًا لا العيش إلى جانب بعض. وهي خطوة تذكّر بالمعادلة التي كثيرًا ما تتردّد في لبنان: «إذا كان الجبل بخير فلبنان بخير».
«الحدث كندا»، التي واكبت هذا الملف عبر زميلها حليم كرم واتصاله بالسيد نظام حاطوم، تضع هذا التطور في سياقٍ أوسع: في لحظة انهيار اقتصادي واهتراء مؤسساتي، تظهر مبادرات من هذا النوع كأنها تصحيحٌ لمسار الدولة، وتأكيد على أن الطوائف – عندما تريد – تستطيع أن تنتقل من إدارة الذاكرة إلى إدارة التنمية، ومن رواية الماضي إلى صناعة المستقبل. وهذه ربما هي القيمة الأهم في التوقيع الأخير.
الأخبار بالفيديو

الأخبار عبر البريد الإلكتروني
اشترك الآن لتصلك الأخبار إلى بريدك الإلكتروني

