التفاوض… ضرورة لا ترفًا سياسيًا

Last Updated: نوفمبر 4, 2025Categories: أخبار لبنان

رؤوف نجم

السلام مع إسرائيل، كما طرحه الرئيس جوزاف عون، ليس مشروعًا لتليين الموقف اللبناني ولا لتطويع الداخل السياسي تحت عنوان “الواقعية”، بل هو مقاربة معاكسة تمامًا: الدولة تدخل التفاوض من موقع السعي إلى تثبيت سيادتها، لا من موقع التنازل عنها. لذلك شدّد على أمرين متلازمين: أن التفاوض بات ضرورة لا خيارًا بفعل المتغيرات الإقليمية والعسكرية، وأن هذا التفاوض لا يعني سلامًا مجانيًا ولا تطبيعًا يلتهم الثوابت اللبنانية.

منذ عقود ولبنان يتعامل مع الصراع مع إسرائيل باعتباره جزءًا من هويته السياسية والأمنية. لكن التحولات التي فرضتها الحرب على غزة، واشتداد الجبهة الجنوبية، والضغط الدولي لمنع توسّع المواجهة، وضعت بيروت أمام سؤال صريح: هل يمكن الاستمرار بإدارة الحدود الجنوبية بمنطق “اللاحرب واللاسلم” بلا أفق سياسي؟ هنا يأتي كلام جوزاف عون ليقول إن ترك الطاولة للآخرين أخطر من الجلوس إليها؛ فالمعادلات تُرسم الآن، ومن يغِب يُكتَب عنه ولا يكتب لنفسه. من هنا وصف التفاوض بأنه “ضرورة” لأن غيابه يعني أن أمن لبنان وحدوده وقراره سيكون مادة تفاوض بين أطراف أخرى.

لكن ضرورة التفاوض لا تعني، بأي شكل، أن لبنان مدعو إلى خفض سقفه. الرئيس عون ربط أي مسار سياسي بشرط سيادي واضح: لا سلام دائمًا من دون وقف الاعتداءات، ولا ترتيبات حدودية من دون انسحاب كامل من الأراضي اللبنانية، ولا استقرارًا حقيقيًا من دون الاعتراف بدور الدولة كمرجعية وحيدة للسلاح والقرار. هذا الربط مهم لأنه يقطع الطريق على القراءة التي تحاول تصوير أي كلام عن تفاوض على أنه تمهيد لتطبيع. على العكس، هو يقول: “ندخل التفاوض لكي نمنع تطبيعًا قسريًا أو تدريجيًا يُفرض علينا من الخارج”.

إن أخطر ما في مقولة “السلام من أجل السلام” أنها تحوّله إلى شعار أخلاقي منزوع من شروطه السياسية. جوزاف عون يرفض هذا النوع من الشعارات لأنه يدرك أن لبنان ليس دولة خرجت لتوّها من هدنة، بل دولة تعيش على خط تماس، في أرض متنازع عليها، وفي ظل خرق جوي وبحري متكرر. فكيف يمكن الكلام عن “سلام ثقافي” أو “سلام اقتصادي” فيما الجنوب غير مؤمّن بالكامل، وفيما العدو يحتفظ بأوراق ضغط ميدانية؟ لهذا جاء تشديده على أن السلام، إذا أتى، يأتي كنتيجة احترام إسرائيل للسيادة اللبنانية، لا كنتيجة ليونة لبنانية داخلية.

ثمّة بُعد داخلي عميق في هذا الكلام. فالتطويع يعني ببساطة استخدام شعار السلام لتعديل ميزان القوى في الداخل، لتوجيه سهام الاتهام إلى فئة لبنانية على حساب أخرى، أو لفرض إعادة صياغة لدور المقاومة أو الجيش أو الأجهزة. جوزاف عون يضع خطًا أحمر هنا: المسار الخارجي لا يُستعمل لتصفية الحسابات الداخلية. التفاوض، في منطقه، وظيفة دولة لا أداة فريق. والدولة عندما تتفاوض تفعل ذلك باسم كامل اللبنانيين، وبسقف القرار 1701، وبهدف واحد: تحييد الجنوب وتثبيت الحدود وإراحة الداخل. أما تحويل المسار التفاوضي إلى رافعة لمشروع سياسي داخلي، فذلك ما يرفضه حديثه ضمناً.

كما أنه يدرك أن أي تفاوض غير متوازن يتحوّل سريعًا إلى تطبيع. لذلك يصرّ على مبدأ “التبادلية”: وقف الاعتداءات يقابله تقدّم سياسي، انسحاب يقابله ترتيب، ضمانات دولية تقابلها التزامات لبنانية. هذا النَفَس التبادلي هو ما يحمي الموقف اللبناني من الانزلاق إلى موقع الطالب أو المتلقّي. والتبادلية هنا ليست تقنية، بل سياسية: هي إعلان أن لبنان يملك أوراقًا، وأنه ليس الحلقة الأضعف كما يحلو للبعض أن يصوّره.

بهذا المعنى يمكن تلخيص مقاربة جوزاف عون في ثلاث جمل مترابطة:

لا يمكن للبنان أن يبقى خارج الطاولة لأن الطاولة اليوم هي المكان الذي تُرسم فيه حدود الغد.

لكن الدخول إلى الطاولة لا يعني تغيير هوية لبنان أو مسح ذاكرته مع الصراع.

وأي سلام لا يمر عبر سيادة كاملة وحصرية قرار الدولة هو سلام ناقص، وبالتالي غير مُلزِم للبنانيين.

إن ما يقوله الرئيس، ضمناً، هو أن لبنان الذي عانى من الاحتلال والاعتداءات والانقسامات لا يحتمل سلامًا يُفرَض عليه كاختبار ولاء للخارج. السلام المقبول هو ذاك الذي يُشعر اللبناني بأنه لم يخسر شيئًا من كرامته الوطنية، وأن الدولة خرجت أقوى لا أضعف. ولذلك فهو يقدّم التفاوض كأداة قوة، لا كعلامة ضعف؛ وكمسار لحماية الموقف اللبناني، لا لتطويعه. وهذه نقطة فارقة تستحق أن تُثبَّت في النقاش العام: نعم، نتفاوض… لكننا نتفاوض لكي نبقى كما نحن، دولة ذات سيادة، لا لكي نصير كما يريدنا الآخرون.

الأخبار عبر البريد الإلكتروني

اشترك الآن لتصلك الأخبار إلى بريدك الإلكتروني